تجربة مع اضطراب ثنائي القطب – كتاب "عقل غير هادئ"
بقلم: سلافة محمود
ماذا يحدث إذا أصيب أحدهم بـ مرض اضطراب ثنائي القطب؟ هل يمكن أن ينجح المريض في معالجة نفسه؟ أو بمعنى آخر هل سيعترف المريض بمرضه من الأساس؟؟
من المعروف أن الاضطراب ثنائي القطب هو أحد أنواع مرض الاكتئاب. لكن أبرز ما يميزه عن الاكتئاب هو مريض اضطراب ثنائي القطب يتأرجح بين قطبين أو نوعين أساسيين من الحالات المزاجية، الهوس والاكتئاب. فيما يوضح سبب ومعنى تسميته (ثنائي القطب).
فأحيانًا تجده يمر بحالات مزاجية جيدة تسمى حالة (الهوس) حالة من النشوة التي تتملك الإنسان تجعله يشعر انه خارق ويستطيع فعل أي شئ في الحياة وفي حالة مزاجية رائعة وشعور غامر بالسعادة. وهي الحالة التي لا يعرفها المرضى الذين يواجهون الأنواع الأخرى من الاكتئاب. وفي نفس الوقت يواجه مريض ثنائي القطب حالة (الاكتئاب) المتمثلة في نوبات اكتئاب قاسية يواجه فيها مشاعر محبطة وكئيبة للغاية.
أنواع مرض اضطراب ثنائي القطب :
1. ثنائي القطب من النوع الأول ( Bibolar 1 ) :
يعاني فيه المريض من إكتئاب شديد جدًا وحالة هوس خفيفة والحالة المزاجية للمريض كثيرًا ما تتدهورمع الوقت بصورة واضحة ومن الممكن أن تطلب دخوله المستشفى. وهنا نوبات الهوس تستمر من ثلاث إلى ستة أشهر.
2. ثنائي القطب من النوع الثاني (Bibolar 2 ) :
يعاني فيه المريض من إكتئاب شديد وهوس خفيف وانخفاض في المزاج، نوبات الهوس تستمر على الأقل أربعة أيام وتستمر الأعراض من أسابيع إلى عدة شهور.
3. تغير المزاج السريع (Rapid cycling):
حالة من اضطراب المزاج والعاطفة الشديدة، حالة من المزاج السيء يليها حالة من المزاج الجيد.
4. اضطراب المزاج الدوري(cyclo thymai):
تكون فيها تقلبات المزاج خفيفة لكنها تستمر لفترات طويلة.
اقرأ أيضًا: الاكتئاب وأشهر أنواعه
أسباب مرض اضطراب ثنائي القطب:
لم يتوصل العلم إلى يومنا هذه لأسباب أكيدة مائة بالمائة لكننا نستطيع أن نقول أن هناك تسعون بالمائة أراء علمية تقول إنه مرض وراثي، وهذا ما وضحته جاميسون في كتابها. عندما ذهبت للطبيب استعرضت تاريخ عائلتها المرضي، فأبيها كان مصابًا بنفس المرض وأحد أفراد عائلته أيضًا.
وبعض العلماء يروون أن في الغالب الذي يُصاب بهذا المرض يعانون من اضرابات في الشخصية واضرابات القلق وفرط الحركة ونقص الإنتباه. إحتمالية حدوث الإصاب بهذا المرض لأي شخص في أي مرحلة عمرية تكون بنسبة ٢%. لكن احتمالات الإصابة به بعد سن الأربعين في الغالب تكون ضئلة جدًا.
كتاب "عقل غير هادئ" :
"كاي ردفيلد جاميسون" طبيبة نفسية أمريكية مرت بتجربة صعبة وصراع طويل مع مرض اضطراب ثنائي القطب أو ذهان الهوس الإكتئابي كما أحبت أن تسميه وفقًا لإسمه القديم، لم تعترف بإسمه الجديد. تحدثت الطبيبة عن تجربتها مع هذا المرض في كتابها "عقل غير هادئ" – سيرة ذاتية عن الهوس والاكتئاب والجنون. تصف جاميسون في سيرتها عن ذلك المرض بأنه كما هو واضح من اسمه له قطبين أساسيين:
القطب الأول (الهوس)، فهي تصف حالتها تحت تأثير هذه الحالة كالتالي:
كنت أضع خطط حماسية ومنهمكة في الرياضة، أقرأ كثيرًا وكل مايقع تحت يدي. أكتب شعرًا ومسرحيات، وأضع خطط مترفة وغير واقعية لمستقبلي. العالم بالنسبة لي كان مليئًا بالسرور شعرت إنني رائعة، وأستطيع فعل أي شئ ولا يوجد مهمة صعبة لا أستطيع انجازها. قد تبدو كل هذه أشياءًا رائعة يمر بها الفرد لكنها مبنية على أساس وهمي. أصحاب هذا الهوس لا يستطيعون فعل سوى أشياءًا بسيطة مما يخططون له.
أما القطب الثاني من المرض فهو (الإكتئاب)، تتحدث عنه الكاتبة قائلة:
بعدما يمر الشخص بمرحلة الهوس تختفي كل السعادة ويحل محلها الشعور بالكآبة والحزن واليأس والتفكير الإنتحاري يكون هو البطل المسيطر على العقل في هذه الحالة. تقول جاميسون: فقدت طاقة إحتمالي أُصيبت بالتدهور في عقلي وحياتي، أصبح تفكيري ضبابيًا، كنت أقرأ نفس القطعة مرتين فقط لأدرك إنني لم أتذكر شيئًا مما قرأته للتو. كل شئ أصبح مُبهم ولاشيء يبدو منطقيًا. لم أعد أهتم بالحياة وفقدت تركيزي الفكري، وأصبح يدور برأسي باستمرار موضوع واحد وهو الموت. ما أهمية الحياة، فانها قصيرة وعديمة المعنى فلماذا نعيشها، كنت منهكة تمامًا بالكاد أستطيع أن أسحب نفسي من السرير في الصباح. كان شعور الضجر والكسل والإرهاق بكل أنواعه هو ما يلازمني في هذه الفترة"
في البداية، لم يخطر في بال دكتورة جاميسون -رغم كونها طبيبة نفسية ولديها خلفية علمية كبيرة- أنها مصابة باضطراب ثنائي القطب. عقلها كان في حالة رفض تامة لإستيعاب كونها مريضة. فهي لذلك لم تكتشف مرضها في البداية على الرغم من أن هذا المرض كان وراثيًا في عائلتها. منذ طفولتها وهي تعاني من الإصابة بهذه النوبات على مراحل متباعدة. ثم بالتدريج بدأت حدة المرض تزداد في مرحلة المدرسة الثانوية. وكونها قد نشأت في بيئة ومناخ أسري صارم. علمها أن تعتمد على نفسها اعتماد كليًا في كل أمورها الحياتية. لذا شكل ذلك حاجز بينها وبين البوح بما يدور في مشاعرها وأفكارها الداخلية.
اقرأ أيضًا: الأفكار الانتحارية والتعامل معها
هل الحب يساعد مريض اضطراب ثنائي القطب؟
تحدثت جاميسون عن أن نوبات الهوس والإكتئاب التي كانت تمر بها كانت عادة ما تكون متعاقبتين وقريبتين من بعض جدًا. بمعنى انها تشعر بالسعادة الغامرة وكأنها في السماء السابعة ثم بعدها مباشرة تشعر بالحزن السحيق الذي ينزل بها إلى الأرض السابعة. هذه المزاجات المتقلبة الدائمة أدخلتها في حالة مزاجية غير مفهومة. السبب الذي جعلها تتساءل في كتابها "من أنا" عن حقيقتها، أي من المشاعر التي تمر بها يمثلها. هل هي الفتاة الشاردة المتهورة الفوضوية والمجنونة، أم أنها الفتاة المنعزلة واليائسة والإنتحارية والمنهكة؟
في البداية كانت تتعرض لهذه النوبات ليس بشكل مستمر. لكن عندما دخلت في علاقة عاطفية أصبحت هذه النوبات أخف. وهنا توضح جاميسون تأثير الحياة العاطفية في حالتها المرضية، فقد توقفت عن الدخول في نوبات شديدة من الهوس والإكتئاب، ربما كانت هذه الحالة مسكن لألمها النفسي ولكنها بعد فترة عادت لنقطة البداية نظرًا لأنها لم تُعالج من الأساس.
تقول جاميسون: "أظن ان العلاقة العاطفية لم تعمل كمسكن بقدر ما ساهمت في تخفيف الشعور بنوبات الهوس". والسبب الأساسي في ذلك هو أن تركيزها كان في اتجاه آخر مع شخص آخر. كما أنها كانت ترى أنها تواجه النوع الرابع من اضطراب ثنائي القطب وهو أخفهم حدة في الأعراض كما ذكرنا ( اضطراب المزاج الدوري).
علاج اضطراب ثنائي القطب:
-بعض الأدوية المعالجة للذهان.
-الأدوية المضادة للتشنجات.
-العلاج السلوكي المعرفي (لكنه غير فعال مع الهوس بشكل كبير)
-العلاج بالصدمات الكهربائية.
- وأخيرًا العلاج الأشهر العلاج بأملاح الليثيوم.
"الليثيوم هو ملح يتم استخدامه لتثبيت الحالة المزاجية في المرضى الذين يعانون من مرض ثنائي القطب (الهوس والاكتئاب-Manic depression) لعلاج الهوس (Mania), ولتقوية تأثير مضادات الاكتئاب ومضادات الذهان (Antipsychotic)"
بعد تعرض الطبيبة جاميسون للكثير من النوبات بدأت تعي ما يحدث لها بشكل جيد. وبدأت ربط الخيوط وعرفت انها مصابة باضطراب ثنائي القطب. بدأت جاميسون في تناول أكثر علاج فعال بالنسبة لها وهو أملاح الليثيوم. والتي شبهتها بالفرامل التي تكبح جماح المشاعر الهائجة مابين الإكتئاب والهوس. لكن الليثيوم بما يتضمنه من آثار جانبية قد أدخلها في صراع آخر فقد أفقدها التركيز وأصبحت تقرأ بصعوبة، وأصبحت الرؤية عندها غير واضحة إلى حد غير معتادة عليه. مما جعلها تمر بانتكاسات كثيرة وصراع ما بين أن تأخذ الليثيوم للسيطرة على أعراض اضطراب ثنائي القطب الذي تعاني منه أو لا لتتجنب صعوبات التركيز الذي يتسبب فيها كعرض جانبي. بالتالي كل الطرق تؤدي إلى الصراع فعلى مريض اضطراب ثنائي القطب أن يختار أي صراع يناسبه أكثر.
وأثناء الإنتكاسات في أخذ جاميسون لأملاح الليثيوم قالت: " القضايا السيكولوجية اثبتت انها أهم بكثير من التأثيرات الجانبية على صراعي الطويل ضد الليثيوم، أنا ببساطة لم أكن أريد أن أعتقد إنني أحتاج الدواء، لقد أدمنت أمزجتي المرتفعة والمبتهجة وأصبحت معتمدة على ماتقدمه لي من حيوية ونشوة، كنت مثل مدمني المخدرات الذين يضحون بكل شيء مقابل نشوة سريعة الزوال."
واكتشفت ذلك عندما مرت بإحدى النوبات الشديدة التي تقول فيها: " لم يعد شيئًا مؤلوفًا لي في السابق مؤلوفًا لي الآن. أوهامي تركزت على الموت البطيء. وعلى نحو متزايد أصبحت صوري في عقلي قاتمة ومنخفضة. قررت أنه إذا لم يتوقف عقلي الذي افترضت سلامته وثباته لسنوات طويلة عن الركض السريع ليبدأ بعمل كطبيعته المعتادة مرة أخرى. سوف أقتل نفسي بالقفز من المبنى المجاور. أمهلته أربع وعشرون ساعة ليتوقف لكن بالطبع لم يكن لديه أي فكرة عن الوقت وتسابقت إلى رأسي مليون فكرة أخرى جميلة وكئيبة. أيام متواصلة لا نهائية واهية استخدمت فيها كم أدوية مرعب، ولكني بدأت أشعر أخيرًا أن عقلي تم كبح جماحه، لكن الأمر استمر كثيرًا لكي استعيده وزمن آخر لكي أثق فيه."
اقرأ أيضًا: ما هو الاكتئاب المبتسم ؟
أهمية الدعم النفسي و الاحتواء في حياة مريض اضطراب ثنائي القطب:
بعد ذلك قررت جاميسون الذهاب للطبيب آخيرًا، هذه الخطوة كانت صعبة عليها بطريقة لا توصف لكنها اقدمت عليها لكون تحت إشراف أحد غيرها، لكن الأمر جاء معها عكسي وقررت بعدها الانتحار عندما واجهها طبيبها قائلًا: "لم يكن هناك شك في صوته انت مصابة بذهان الهوس الإكتئابي – اضطراب ثنائي القطب". كان وقع التشخيص عليها كالصدمة، مهما كنا مانعتقدة سيء، يصبح أسوأ بكثيرعندما يؤكده لنا غيرنا.
لكن قبل اقدامها على الانتحار أنقذها الحب مرة ثانية، عندما قابلت ديفيد الطبيب النفسي في الجيش الإنجليزي حينذاك. الذي عاشت قصتها معه لمدة أربع سنوات لم تذكر فيهما سوى حالات جميلة، لكن للأسف هذه الحالة لم تدم طويلًا فقد مات ديف.
وللمرة الثالثة ينقذ حياتها الحب والاحتواء العاطفي بعد أن عوضها عن صدمتها في فقدان حبيبها تعاطف أصدقائه معها ونظراتهم الحانية ودعمهم لها.
محاولة الكاتبة للإنتحار:
ظلت جاميسون تمر بالكثير من نوبات الهوس الشديدة مثل قرائتها للكثيرمن الكتب، شرائها لأشياء كثيرة لم تكن بحاجتها اطلاقًا، كل شيء تقع عيناه عليه تأتي به لشقتها بدون هدف واضح للشراء. تطبع أربعين نسخة من قصيدة أحبتها لتوزعها على أصدقائها في المشفى. حتى قال لها الطبيب بطريقة غير مباشرة" لا تستطعين أن تنجبي الأطفال فالعالم ليس بحاجة إلى أطفال يعانون باضطراب عقلي." مما جعلها تتأكد من أن الإنتحار هو السبيل الوحيد للخلاص من معاناتها. وبالفعل حاولت الإنتحار بتناول جرعة زائدة من الليثيوم، لكن أخوها وصديقها ينقذاها في آخر لحظة.
ومن بعد هذه الواقعة قررت انها ستتعالج بشكل سليم. حولت محل إقامتها من كاليفورنيا إلى لوس انجلوس. ومن هنا تعرفت على شخص فهم حالتها وساعدها على المضي نحو الطريق الجيد. وبالتدريج خفت حدة النوبات وأصبحت تشعر أنها بحال أفضل.
تنهى كاي ردفيلد جاميسون كتابها قائلة:
" كلنا نبني أسوارًا بحرية داخلية لتصد الحزن القادم لنا من بحر الحياة والقوى الجامحة الموجودة غالبًا داخل عقولنا. بأي طريقة فعلنا ذلك، عن طريق الحب، العمل، العائلة، الأصدقاء، الإيمان..الخ) تصبح هذه الغرف حرم مقد وملاذًا حقيقي يبعد الشخص عن الإضطراب والألم. ولشخص في مثل عقلي يصبح الدواء شيئًا مكملًا لهذا السورالذي بدونهما سأكون بدون أدنى شك ميتة أو مجنونة. ولكن الحب بالنسبة لي هو الجزء الجوهري والاستثنائي من هذا السور العازل للأمواج، فهو يساعدني على صد الرعب والوحشة، بينما في نفس الوقت يسمح بدخول الحياة والجمال، عندما كتبته هذا الكتاب تخيلته كتابًا عن الأمزجة ومرض الأمزجة ولكني عندما كتبته تحول إلى كتاب عن الحب أيضًا، الحب كعامل مؤازر، الحب كعنصر مجدد، الحب كأداة للحماية، بعد كل ما بدأ أنه يموت في عقلي، عاد الحب ليعيد خلق الأمل من جديد ويسترد الحياة."
المصادر:
كتاب عقل غير هادئ (سيرة ذاتية عن الهوس والإكتئاب)
تعليقات
إرسال تعليق